الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
تَكُونُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا: سِتَّةٌ مِنْهَا أَسْمَاءٌ، وَسِتَّةٌ حُرُوفٌ. فَالِاسْمِيَّةُ ضَرْبَانِ: مَعْرِفَةٌ وَنَكِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَ مَوْضِعَهَا " الَّذِي " فَهِيَ مَعْرِفَةٌ، أَوْ شَيْءٌ فَهِيَ نَكِرَةٌ، وَإِنْ حَسُنَا مَعًا جَازَ الْأَمْرَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ} (النِّسَاءِ: 48) وَ{هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} (ق: 23). وَالنَّكِرَةُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ تَلْزَمُ الصِّفَةَ، وَضَرْبٌ لَا تَلْزَمُهُ، فَالَّذِي لَا تَلْزَمُهُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ وَالشَّرْطِيَّةُ وَالتَّعَجُّبُ، وَمَا عَدَاهَا تَكُونُ مِنْهُ نَكِرَةً، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ صِفَةٍ تَلْزَمُهَا. فَالْأَوَّلُ مِنَ السِّتَّةِ: الْأَسْمَاءُ الْخَبَرِيَّةُ وَهِيَ الْمَوْصُولَةُ، وَيَسْتَوِي فِيهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَالْإِفْرَادُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (النَّحْلِ: 96) وَقَوْلِهِ: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (الْبَقَرَةِ: 4) {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (النَّحْلِ: 49). فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُذَكَّرَ كَانَتْ لِلتَّذْكِيرِ، بِمَعْنَى الَّذِي، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَنَّثَ كَانَتْ لِلتَّأْنِيثِ بِمَعْنَى الَّتِي. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَذَا يَقُولُ النَّحْوِيُّونَ إِنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُؤَنَّثَ كَانَتْ لِلتَّأْنِيثِ بِمَعْنَى الَّتِي مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بَيْنَهُمَا تَخَالُفٌ فِي الْمَعْنَى وَبَعْضِ الْأَحْكَامِ. أَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ " مَا " اسْمٌ مُبْهَمٌ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ، حَتَّى إِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمَعْدُومِ، نَحْوُ: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا لَمْ يَكُنْ. وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ نَعْتًا لِمَا قَبْلَهَا، وَلَا مَنْعُوتَةً لِأَنَّ صِلَتَهَا تُغْنِيهَا عَنِ النَّعْتِ وَلَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ. انْتَهَى. ثُمَّ لَفْظُهَا مُفْرَدٌ وَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ، وَيَجُوزُ مُرَاعَاتُهَا فِي الضَّمِيرِ. وَنَحْوُهُ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (يُونُسَ: 18) ثُمَّ قَالَ: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} (يُونُسَ: 18) لَمَّا أَرَادَ الْجَمْعَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (النَّحْلِ: 73). وَمِنْ مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 93). وَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ} (النَّحْلِ: 96). وَقَدْ تَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا لَا يَعْقِلُ تَغْلِيبًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (الْأَعْرَافِ: 185). فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الْمَوْجُودَاتِ، وَقَوْلِهِ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (الْحَشْرِ: 1)، وَقَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 98)، الْآيَةَ بِدَلِيلِ نُزُولِ الْآيَةِ بَعْدَهَا مُخَصَّصَةً: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} (الْأَنْبِيَاءِ: 101). قَالُوا: وَقَدْ تَأْتِي لِأَنْوَاعِ مَنْ يَعْقِلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النِّسَاءِ: 3) أَيِ الْأَبْكَارِ إِنْ شِئْتُمْ أَوِ الثَّيِّبَاتِ. وَلَا تَكُونُ لِأَشْخَاصِ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهَا اسْمٌ مُبْهَمٌ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ، فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهَا إِلَّا عَلَى جِنْسٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) وَالْمُرَادُ آدَمُ. وَقَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} (الشَّمْسِ: 5). وَقَوْلِهِ: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الْكَافِرُونَ: 3) أَيِ اللَّهَ. فَأَمَّا الْأُولَى فَقِيلَ إِنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: بَلْ إِنَّهَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا مِنْ حَيْثُ كَانَ السُّجُودُ لِمَا يَعْقِلُ، وَلَكِنْ لِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ الْمَعْصِيَةُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى مَا لَمْ يَخْلُقْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمَ عَصَيْتَنِي وَتَكَبَّرْتَ عَلَى مَا خَلَقْتُهُ وَشَرَّفْتُهُ، فَلَوْ قَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَنْ؟ كَانَ اسْتِفْهَامًا مُجَرَّدًا مِنْ تَوْبِيخٍ، وَلَتُوُهِّمَ أَنَّهُ وَجَبَ السُّجُودُ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَعْقِلُ، أَوْ لِعِلَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِيهِ أَوْ لِذَاتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا آيَةُ السَّمَاءِ، فَلِأَنَّ الْقَسَمَ تَعْظِيمٌ لِلْمُقْسَمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الْعَظْمَةِ وَالْآيَاتِ، فَثَبَتَ لِهَذَا الْقَسَمِ بِالتَّعْظِيمِ كَائِنًا مَا كَانَ. وَفِيهِ إِيحَاءٌ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِيجَادِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: " مَنْ " لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ لِلْمَعْنَى مَقْصُورًا عَلَى ذَاتِهِ دُونَ أَفْعَالِهِ. وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ جَعَلَهَا بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ. وَأَمَّا (مَا أَعْبُدُ) فَهِيَ عَلَى بَابِهَا، لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى مَعْبُودِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَهُمْ جَاهِلُونَ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ مَعْبُودِي. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسُدُونَهُ وَيَقْصِدُونَ مُخَالَفَتَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مَعْبُودُهُ، فَلَا يَصِحُّ فِي اللَّفْظِ إِلَّا لَفْظَةُ " مَا " لِإِبْهَامِهَا وَمُطَابَقَتِهَا لِغَرَضٍ أَوْ لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ مَعْبُودَهُمْ لَا يَعْقِلُ، وَكَرَّرَ الْفِعْلَ عَلَى بِنْيَةِ الْمُسْتَقْبَلِ حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ، إِيمَاءً إِلَى عِصْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عَنِ الزَّيْغِ وَالتَّبْدِيلِ، وَكَرَّرَهُ بِلَفْظٍ حِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَتَّبِعُونَ شَهَوَاتِهِمْ بِفَرْضِ أَنْ يَعْبُدُوا الْيَوْمَ مَا لَا يَعْبُدُونَهُ غَدًا. وَهَاهُنَا ضَابِطٌ حَسَنٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْخَبَرِيَّةِ وَالِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ " مَا " إِذَا جَاءَتْ قَبْلَ " لَيْسَ " أَوْ " لَمْ " أَوْ " لَا "، أَوْ بَعْدَ " إِلَّا " فَإِنَّهَا تَكُونُ خَبَرِيَّةً كَقَوْلِهِ: {مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} (الْمَائِدَةِ: 116) مَا لَمْ يَعْلَمْ (الْعَلَقِ: 5) مَا لَا تَعْلَمُونَ (الْبَقَرَةِ: 69) إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا (الْبَقَرَةِ: 32)، وَشَبَهِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ حَرْفِ الْجَرِّ نَحْوُ: رُبَّمَا وَعَمَّا وَفِيمَا وَنَظَائِرِهَا، إِلَّا بَعْدَ كَافِ التَّشْبِيهِ. وَرُبَّمَا كَانَتْ مَصْدَرًا بَعْدَ الْبَاءِ، نَحْوُ: بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (الْأَعْرَافِ: 162) بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (الْبَقَرَةِ: 10) بِمَا تَعْمَلُونَ (الْفَتْحِ: 11). وَإِنْ وَقَعَتْ بَيْنَ فِعْلَيْنِ سَابِقُهُمَا عِلْمٌ أَوْ دِرَايَةٌ أَوْ نَظَرٌ، جَازَ فِيهَا الْخَبَرُ وَالِاسْتِفْهَامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعْلَمُ مَا تَبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 33). {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (النَّحْلِ: 13) {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} (هُودٍ: 79) {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ} (يُوسُفَ: 89). {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} (الْأَحْقَافِ: 9). {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ} (الْحَشْرِ: 18). الثَّانِي: الشَّرْطِيَّةُ، وَلَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، وَيَعْمَلُ فِيهَا مَا بَعْدَهَا مِنَ الْفِعْلِ، نَحْوُ: مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (الْبَقَرَةِ: 106). {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (الْبَقَرَةِ: 197). {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَةِ: 215). {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 110). {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} (فَاطِرٍ: 2). فَـ " مَا " فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهَا. الثَّالِثُ: الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بِمَعْنَى أَيِّ شَيْءٍ، وَلَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ كَالشَّرْطِيَّةِ وَيُسْأَلُ بِهَا عَنْ أَعْيَانِ مَا لَا يَعْقِلُ وَأَجْنَاسِهِ وَصِفَاتِهِ، عَنْ أَجْنَاسِ الْعُقَلَاءِ وَأَنْوَاعِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: مَا هِيَ (الْبَقَرَةِ: 70) وَ مَا لَوْنُهَا (الْبَقَرَةِ: 69)، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (طه: 17). قَالَ الْخَلِيلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} (الْعَنْكَبُوتِ: 42) " مَا " اسْتِفْهَامٌ، أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟. وَمِثَالُ مَجِيئِهَا لِصِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} (الْفُرْقَانِ: 60) وَنَظِيرُهَا- لَكِنْ فِي الْمَوْصُولَةِ-: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النِّسَاءِ: 3). وَجَوَّزَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يُسْأَلَ بِهَا عَنْ أَعْيَانِ مَنْ يَعْقِلُ أَيْضًا، حَكَاهُ الرَّاغِبُ، فَإِنْ كَانَ مَأْخَذُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 23) فَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمَالِكُ وَالْمِلْكُ صِفَةٌ، وَلِهَذَا أَجَابَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالصِّفَاتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ " مَا " سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَجَابَهُ مُوسَى تَنْبِيهًا عَلَى صَوَابِ السُّؤَالِ. ثُمَّ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي إِعْرَابِهَا وَهُوَ بِحَسَبِ الِاسْمِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَوْنُهَا (الْبَقَرَةِ: 69) وَ مَا هِيَ (الْبَقَرَةِ: 70) {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النِّسَاءِ: 79). وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا هُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا الرَّحْمَنُ} (الْفُرْقَانِ: 60) وَقَوْلِهِ: {مَا الْقَارِعَةُ}، {مَا الْحَاقَّةُ}. الثَّانِيَةُ: فِي حَذْفِ أَلِفِهَا، وَيَكْثُرُ فِي حَالَةِ الْخَفْضِ، قَصَدُوا مُشَاكَلَةَ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى فَحَذَفُوا الْأَلِفَ كَمَا أَسْقَطُوا الصِّلَةَ، وَلَمْ يَحْذِفُوا فِي حَالِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ، كَيْلَا تَبْقَى الْكَلِمَةُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهَا حَرْفُ الْجَرِّ أَوْ مُضَافٌ اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْخَافِضَ وَالْمَخْفُوضَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (النَّازِعَاتِ: 43) {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التَّحْرِيمِ: 1) {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} (الْحِجْرِ: 54) {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (النَّبَأِ: 1). وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِمَّا أَنْ يَسْتَفْهِمَ بِهَا مَبْنِيًّا أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ لَا يُحْذَفُ إِلَّا مَعَ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} (الْحِجْرِ: 54) وَنَظَائِرِهِ، وَالثَّانِي يُحْذَفُ مَعَ غَيْرِ الْخَافِضِ فَإِذَا قَالَ: رَأَيْتُ شَيْئًا حَسَنًا قُلْتَ مَا رَأَيْتُ أَوْ رَأَيْتُ مِنْهُ. انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} (يس: 26- 27) فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ بِأَيِّ شَيْءٍ غَفَرَ لِي رَبِّي فَجَعَلُوا " مَا " اسْتِفْهَامًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ بِمَغْفِرَةِ رَبِّي، فَجَعَلَهَا مَصْدَرِيَّةً. قَالَ الْهَرَوِيُّ: إِثْبَاتُ الْأَلِفِ فِي " مَا " بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مَعَ اتِّصَالِهَا بِحَرْفِ الْجَرِّ لُغَةً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} (الْأَعْرَافِ: 16) فَقِيلَ: إِنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ بِأَيِّ شَيْءٍ أَغْوَيْتَنِي؟ ثُمَّ ابْتَدَأَ {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} وَقِيلَ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَقْعُدَنَّ، أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ أُقْسِمُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْقَسَمِ، أَيْ فَأُقْسِمُ بِإِغْوَائِكَ لَأَقْعُدَنَّ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِالْإِغْوَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا، وَالتَّكْلِيفُ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ لِكَوْنِهِ تَعْرِيفًا لِسَعَادَةِ الْأَبَدِ، وَكَانَ جَدِيرًا أَنْ يُقْسِمَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: تَعَلُّقُهَا بِـ " لَأَقْعُدَنَّ " قِيلَ: يَصُدُّ عَنْهُ لَامُ الْقَسَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ: وَاللَّهِ لَا بِزَيْدٍ لَأَمُرَّنَّ. وَالرَّابِعُ: التَّعَجُّبِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (الْبَقَرَةِ: 175). {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عَبَسَ: 17). وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَا أَغَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (الِانْفِطَارِ: 6). وَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَ " مَا " خَبَرٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ وَالتَّعَجُّبَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ، لِأَنَّكَ إِذَا تَعَجَّبْتَ مِنْ شَيْءٍ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَسْأَلَ عَنْهُ. وَالْخَامِسُ: نَكِرَةٌ بِمَعْنَى شَيْءٍ، وَيَلْزَمُهَا النَّعْتُ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ مَا مُعْجِبًا لَكَ وَفِي التَّنْزِيلِ: {مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (الْبَقَرَةِ: 26) {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} (النِّسَاءِ: 58) أَيْ نِعْمَ شَيْئًا يَعِظُكُمْ بِهِ. وَالسَّادِسُ: نَكِرَةٌ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَلَا صِلَةٍ، كَالتَّعَجُّبِ وَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، كَقَوْلِهِ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} (الْبَقَرَةِ: 271) أَيْ فَنِعْمَ شَيْئًا هِيَ، كَمَا تَقُولُ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، أَيْ نِعْمَ الرَّجُلُ رَجُلًا زَيْدٌ ثُمَّ قَامَ " مَا " مَقَامَ الشَّيْءِ. فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ تَجِيءُ مَا مُضْمَرَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} (الْإِنْسَانِ: 20) أَيْ مَا ثَمَّ. وَقَوْلِهِ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} (الْكَهْفِ: 78) أَيْ مَا بَيْنِي. {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 94) أَيْ مَا بَيْنَكُمْ.
[مَا الْحَرْفِيَّةُ] وَأَمَّا الْحَرْفِيَّةُ مَا الْحَرْفِيَّةُ، وَاسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَسِتَّةٌ: الْأَوَّلُ: النَّافِيَةُ، وَلَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ. وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ، فَفِي الْأَسْمَاءِ كَلَيْسَ تَرْفَعُ وَتَنْصِبُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ. قَالَ تَعَالَى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يُوسُفَ: 31). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (الْمُجَادَلَةِ: 2) عَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ التَّاءِ. وَقَوْلِهِ: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الْحَاقَّةِ: 47). وَعَلَى الْأَفْعَالِ فَلَا تَعْمَلُ، وَتَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي بِمَعْنَى " لَمْ " نَحْوُ: مَا خَرَجَ، أَيْ لَمْ يَخْرُجْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (الْبَقَرَةِ: 16). وَعَلَى الْمُضَارِعِ لِنَفْيِ الْحَالِ، بِمَعْنَى لَا، نَحْوَ مَا يَخْرُجُ زَيْدٌ، أَيْ لَا يَخْرُجُ، نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ خُرُوجٌ فِي الْحَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ جَحْدًا، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ. وَسَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَحْدِ وَالنَّفْيِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَاعِدَةِ الْمَنْفِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: هِيَ لِنَفْيِ الْحَالِ فِي اللُّغَتَيْنِ الْحِجَازِيَّةِ وَالتَّمِيمِيَّةِ، نَحْوُ: مَا زَيْدٌ مُنْطَلِقًا وَمُنْطَلِقٌ، وَلِهَذَا جَعَلَهَا سِيبَوَيْهِ فِي النَّفْيِ جَوَابًا لِـ " قَدْ " فِي الْإِثْبَاتِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ " قَدْ " لِلتَّقْرِيبِ مِنَ الْحَالِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ جَوَابًا لَهَا فِي النَّفْيِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ لِلنَّفْيِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} (الدُّخَانِ: 35) {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (الْأَنْعَامِ: 26). وَفِي الْمَاضِي، نَحْوُ: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (الْمَائِدَةِ: 19) فَإِنَّهُ وَرَدَ لِلتَّعْلِيلِ عَلَى مَعْنَى كَرَاهَةِ أَنْ يَقُولُوا عِنْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ: مَا جَاءَنَا فِي الدُّنْيَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، وَهَذَا لِلْمَاضِي الْمُحَقَّقِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ سِيبَوَيْهِ جَعَلَ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ، لِأَنَّهَا جَرَتْ مَوْضِعَ " قَدْ " فِي النَّفْيِ، فَكَمَا أَنَّ " قَدْ " فِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ، فَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ جَوَابًا لَهَا. وَهُنَا ضَابِطٌ، وَهُوَ إِذَا مَا أَتَتْ بَعْدَهَا " إِلَّا " فِي الْقُرْآنِ، فَهِيَ مِنْ نَفْيٍ إِلَّا فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا. أَوَّلُهَا: فِي الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا} (الْآيَةَ: 229). الثَّانِي: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} (الْبَقَرَةِ: 237). الثَّالِثُ: فِي النِّسَاءِ قَوْلُهُ: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ} (الْآيَةَ: 19). الرَّابِعُ: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (النِّسَاءِ: 22). الْخَامِسُ: فِي الْمَائِدَةِ {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (الْآيَةَ: 3). السَّادِسُ: فِي الْأَنْعَامِ {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} (الْآيَةَ: 8). السَّابِعُ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا} (الْأَنْعَامِ: 119). الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ: فِي هُودٍ {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا} (الْآيَةَ: 107- 108) فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا فِي ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ، وَالثَّانِي فِي ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. الْعَاشِرُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ: فِي يُوسُفَ {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا} (الْآيَةَ: 47) وَفِيهَا {مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا} (الْآيَةَ: 48). الثَّانِيَ عَشَرَ: فِي الْكَهْفِ {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (الْآيَةَ: 16) عَلَى خِلَافٍ فِيهَا. الثَّالِثَ عَشَرَ: {وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (الْحِجْرِ: 58) حَيْثُ كَانَ. وَالثَّانِي: الْمَصْدَرِيَّةُ وَهِيَ قِسْمَانِ: وَقْتِيَّةٌ وَغَيْرُ وَقْتِيَّةٍ. فَالْوَقْتِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ نَائِبٍ عَنِ ظَرْفِ الزَّمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (هُودٍ: 107) وَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (آلِ عِمْرَانَ: 75) وَ{مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (الْمَائِدَةِ: 96) أَيْ مُدَّةَ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَوَقْتَ دَوَامِ قِيَامِكُمْ وَإِحْرَامِكُمْ، وَتُسَمَّى ظَرْفِيَّةً أَيْضًا. وَغَيْرُ الْوَقْتِيَّةِ هِيَ الَّتِي تُقَدَّرُ مَعَ الْفِعْلِ، نَحْوُ بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ، أَيْ صُنْعُكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (التَّوْبَةِ: 77) أَيْ بِتَكْذِيبِهِمْ، أَوْ بِكَذِبِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقَوْلِهِ: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} (التَّوْبَةِ: 118) وَقَوْلِهِ: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} (الْبَقَرَةِ: 13) وَ{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا} (الْبَقَرَةِ: 151) وَ{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا} (الْبَقَرَةِ: 90) أَيْ كَإِيمَانِ النَّاسِ، وَكَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَبِئْسَ اشْتِرَاؤُهُمْ. وَكُلَّمَا أَتَتْ بَعْدَ كَافِ التَّشْبِيهِ أَوْ بِئْسَ فَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَصَاحِبُ " الْكِتَابِ " يَجْعَلُهَا حَرْفًا، وَالْأَخْفَشُ يَجْعَلُهَا اسْمًا، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَعُودُ عَلَيْهَا مِنْ صِلَتِهَا شَيْءٌ. وَالثَّالِثُ: الْكَافَّةُ لِلْعَامِلِ عَنْ عَمَلِهِ، وَهُوَ [مَا] يَقَعُ بَيْنَ نَاصِبٍ وَمَنْصُوبٍ، أَوْ جَارٍّ وَمَجْرُورٍ، أَوْ رَافِعٍ وَمَرْفُوعٍ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النِّسَاءِ: 171) {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فَاطِرٍ: 28) {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (آلِ عِمْرَانَ: 178). وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: رُبَّمَا رَجُلٌ أَكْرَمْتُهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الْحِجْرِ: 2). وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِكَ: قَلَّمَا تَقُولِينَ، وَطَالَمَا تَشْتَكِينَ. وَالرَّابِعُ: الْمُسَلَّطَةُ وَهِيَ الَّتِي تَجْعَلُ اللَّفْظَ [مُتَسَلِّطًا بِالْعَمَلِ] بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا، نَحْوَ مَا فِي إِذْمَا وَحَيْثُمَا، [لِأَنَّكَ تَقُولُ: إِذْمَا أَفْعَلْ وَحَيْثُمَا أَفْعَلْ، فَإِذْ وَحَيْثُ] لَا يَعْمَلَانِ بِمُجَرَّدِهِمَا فِي الشَّرْطِ، وَيَعْمَلَانِ عِنْدَ دُخُولِهَا عَلَيْهِمَا. وَالْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ مُغَيِّرَةً لِلْحَرْفِ عَنْ حَالِهِ، كَقَوْلِهِ فِي " لَوْ " لَوْمَا، غَيَّرَتْهَا إِلَى مَعْنَى " هَلَّا "، قَالَ تَعَالَى: {لَوْمَا تَأْتِينَا} (الْحِجْرِ: 7). وَالسَّادِسُ: الْمُؤَكِّدُ لِلَّفْظِ وَيُسَمِّيهِ [بَعْضُهُمْ صِلَةً]، وَبَعْضُهُمْ زَائِدَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَرْفٌ إِلَّا وَلَهُ مَعْنًى. وَيَتَّصِلُ بِهَا الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَتَقَعُ أَبَدًا حَشْوًا أَوْ آخِرًا، وَلَا تَقَعُ ابْتِدَاءً، [لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِهَا يَقْتَضِي الْعِنَايَةَ بِهَا وَهِيَ تُنَافِي زِيَادَتَهَا]، وَإِذَا وَقَعَتْ حَشْوًا فَلَا تَقَعُ إِلَّا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَلَازِمَيْنِ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَكِّدُ زِيَادَتَهَا لِإِقْحَامِهَا بَيْنَ مَا هُوَ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. [وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَقَعَ بَيْنَ رَافِعٍ وَمَرْفُوعٍ وَنَاصِبٍ وَمَنْصُوبٍ وَجَارٍّ وَمَجْرُورٍ وَجَازِمٍ وَمَجْزُومٍ فَالْأَوَّلُ....، وَمِثَالُ النَّاصِبِ وَالْمَنْصُوبِ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [الْبَقَرَةِ: 26] وَمِثَالُ النَّاصِبِ وَالْمَنْصُوبِ وَمِثَالُ الْجَازِمِ وَالْمَجْزُومِ]: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} (الْبَقَرَةِ: 148). {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} (النِّسَاءِ: 78)؛ [فَقَوْلُهُ " أَيْنَ " مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ " يَكُونُوا " وَقَوْلِهِ " يَكُونُوا " مَجْزُومَةٌ بِقَوْلِهِ " أَيْنَ " وَقَدْ وَقَعَتْ بَيْنَ النَّاصِبِ وَالْمَنْصُوبِ وَالْجَازِمِ وَالْمَجْزُومِ]. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 115). {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الْإِسْرَاءِ: 110). [وَمِثَالُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورِ] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 159). {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (النِّسَاءِ: 155). عَمَّا قَلِيلٍ (الْمُؤْمِنُونَ: 40). {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} (الْقَصَصِ: 28). {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} (نُوحٍ: 25). [فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا جُعِلَتْ نَكِرَةً غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ زِيَادَتِهَا، وَيَكُونُ " نَقْضِهِمْ " بَدَلًا، قُلْتُ: عَدَلُوا عَنْهُ لِقِلَّةِ مَجِيئِهَا نَكِرَةً غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ]. وَجَعَلَ مِنْهُ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْحُرُوفِ الْخَمْسَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ) (الطَّارِقِ: 4) قَالَ: إِنَّمَا هِيَ لَعَلَيْهَا فَجَعَلَهَا زَائِدَةً. وَأَجَازَ الْفَارِسِيُّ زِيَادَةَ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَلَيْهَا حَافِظٌ. ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (يس: 32) إِنَّمَا هُوَ لَجَمِيعٌ وَ " مَا " لَغْوٌ. قَالَ الصَّفَّارُ: وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى أَنْ يَجْعَلَهَا لَغْوًا وَلَمْ يَجْعَلْهَا مَوْصُولًا، لِأَنَّ بَعْدَهَا مُفْرَدًا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} (الْأَنْعَامِ: 154). فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلَهَا فِي {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} مَوْصُولَةً لِأَنَّ بَعْدَهَا الظَّرْفَ؟ قُلْنَا: مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ " مَا " عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ، أَلَا تَرَى كُلَّ نَفْسٍ! وَهَذَا يَمْنَعُ فِي الْآيَتَيْنِ مِنَ الصِّلَةِ. انْتَهَى، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ عِبَارَةَ اللَّغْوِ.
لَا تَكُونُ إِلَّا اسْمًا لِوُقُوعِهَا فَاعِلَةً وَمَفْعُولَةً وَمُبْتَدَأَةً، وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا: الْمَوْصُولَةُ، وَالِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَالشَّرْطِيَّةُ، وَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ. فَالْمَوْصُولَةُ كَقَوْلِهِ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 19). {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الرَّعْدِ: 15). وَالِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي أُشْرِبَتْ مَعْنَى النَّفْيِ، وَمِنْهُ: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 135) وَ{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (الْحِجْرِ: 56). وَلَا يَتَقَيَّدُ جَوَازُ ذَلِكَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَهَا الْوَاوُ خِلَافًا لِابْنِ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ بِدَلِيلِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (الْبَقَرَةِ: 255). وَالشَّرْطِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} (فُصِّلَتْ: 46). وَ{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الْأَنْعَامِ: 160). وَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} (الْبَقَرَةِ: 8) أَيْ فَرِيقٌ يَقُولُ. وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ، وَضَعَّفَهُ أَبُو الْبَقَاءِ بِأَنَّ " الَّذِي " يَتَنَاوَلُ أَقْوَامًا بِأَعْيَانِهِمْ، وَالْمَعْنَى هَاهُنَا عَلَى الْإِيهَامِ. وَتَوَسَّطَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ " أَلْ " لِلْجِنْسِ فَنَكِرَةٌ، أَوْ لِلْعَهْدِ فَمَوْصُولَةٌ، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ مُنَاسَبَةَ الْجِنْسِ لِلْجِنْسِ، وَالْعَهْدِ لِلْعَهْدِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ وَمَنْ مَوْصُولَةٌ، وَلِلْعَهْدِ وَمَنْ نَكِرَةٌ. ثُمَّ الْمَوْصُولَةُ قَدْ تُوصَفُ بِالْمُفْرَدِ وَبِالْجُمْلَةِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 26) فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَيْ كُلُّ شَخْصٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَيْهَا. قَالُوا: وَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِهِ فَعَلَى الْمَجَازِ. هَذِهِ عِبَارَةُ الْقُدَمَاءِ، وَعَدَلَ جَمَاعَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: (مَنْ يَعْلَمُ) لِإِطْلَاقِهَا عَلَى الْبَارِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} (الرَّعْدِ: 16) وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُوصَفُ بِالْعِلْمِ لَا بِالْعَقْلِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهِ. وَضَيَّقَ سِيبَوَيْهِ الْعِبَارَةَ فَقَالَ: هِيَ لِلْأَنَاسِيِّ. فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمِلْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} (الْحَجِّ: 18) فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، بِأَنْ يَقُولَ لِأُولِي الْعِلْمِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا يَقِلُّ فِيهَا، فَاقْتُصِرَ عَلَى الْأَنَاسِيِّ لِلْغَلَبَةِ. وَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ، فَإِمَّا لِأَنَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، وَإِمَّا لِاخْتِلَاطِهِ بِهِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} (النَّحْلِ: 17) وَالَّذِي لَا يَخْلُقُ الْمُرَادُ بِهِ الْأَصْنَامُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْعَرَبِ لَكِنَّهُ لَمَّا عُومِلَتْ بِالْعِبَادَةِ عَبَّرَ عَنْهَا بِمَنْ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَنْ لَا يَخْلُقُ الْعُمُومَ الشَّامِلَ لِكُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْعَاقِلِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَكُونُ مَجِيءُ " مَنْ " هُنَا لِلتَّغْلِيبِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الِاخْتِلَاطُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} (النُّورِ: 45) الْآيَةَ، فَعَبَّرَ بِهَا عَمَّنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ، وَهُمُ الْحَيَّاتُ، وَعَمَّنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ وَهُمُ الْبَهَائِمُ، لِاخْتِلَاطِهَا مَعَ مَنْ يَعْقِلُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَشْمَلُ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ، فَغَلَبَ عَلَى الْجَمِيعِ حُكْمُ الْعَاقِلِ. (فَائِدَةٌ الْفَرْقُ بَيْنَ " مَا " وَ " مَنْ " فِي الِاسْتِعْمَالِ) قِيلَ: إِنَّمَا كَانَتْ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّ مَوَاضِعَ مَا فِي الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ مَوَاضِعِ مَنْ، وَمَا لَا يَعْقِلُ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْقِلُ، فَأَعْطَوْا مَا كَثُرَتْ مَوَاضِعُهُ لِلْكَثِيرِ، وَأَعْطَوْا مَا قَلَّتْ مَوَاضِعُهُ لِلْقَلِيلِ، وَهُوَ مَنْ يَعْقِلُ لِلْمُشَاكَلَةِ وَالْمُجَانَسَةِ (تَنْبِيهٌ) ذَكَرَ الْأَبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ أَنَّ اخْتِصَاصَ مَنْ بِالْعَاقِلِ وَمَا بِغَيْرِهِ مَخْصُوصٌ بِالْمَوْصُولَتَيْنِ، أَمَّا الشَّرْطِيَّةُ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ يَسْتَدْعِي الْفِعْلَ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ (تَنْبِيهٌ) وَقَدْ سَبَقَ فِي قَاعِدَةِ مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بَيَانُ حُكْمِ مَنْ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (الْبَقَرَةِ: 111) فَجَعَلَ اسْمَ كَانَ مُفْرَدًا حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَخَبَرَهَا جَمْعًا حَمْلًا عَلَى مَعْنَاهَا، وَلَوْ حَمَلَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ عَلَى اللَّفْظِ مَعًا لَقَالَ: إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَلَوْ حَمَلَهُمَا عَلَى مَعْنَاهَا لَقَالَ: إِلَّا مَنْ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى، فَصَارَتِ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَاقِلِينَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَنَعَهَا ابْنُ السَّرَّاجِ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الِاسْمُ وَالْخَبَرُ مَعًا عَلَى اللَّفْظِ، فَيُقَالُ: إِلَّا مَنْ كَانَ عَاقِلًا، أَوْ يُحْمَلَا مَعًا عَلَى الْمَعْنَى فَيُقَالُ: إِلَّا مَنْ كَانُوا عَاقِلِينَ. وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ.
حَرْفٌ يَأْتِي لِبِضْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى: الْأَوَّلُ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَتِهَا إِلَى الَّتِي لِلِانْتِهَاءِ. وَذَلِكَ إِمَّا فِي اللَّفْظِ، نَحْوَ سِرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (الْإِسْرَاءِ: 1). وَإِمَّا فِي الْمَعْنَى، نَحْوُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو، لِأَنَّ مَعْنَاهُ زِيَادَةُ الْفَضْلِ عَلَى عَمْرٍو، وَانْتِهَاؤُهُ فِي الزِّيَادَةِ إِلَى زَيْدٍ. وَيَكُونُ فِي الْمَكَانِ اتِّفَاقًا، نَحْوُ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، نَحْوَ مِنْ فُلَانٍ وَمِنْهُ: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} (النَّمْلِ: 30) وَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ، إِذَا أَرَدْتَ الْبِدَاءَةَ مِنَ الصَّغِيرِ وَالنِّهَايَةَ بِالْكَبِيرِ. وَفِي الزَّمَانِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ. وَقَوْلِهِ: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الرُّومِ: 4) فَإِنَّ قَبْلُ وَبَعْدُ ظَرْفَا زَمَانٍ. وَتَأَوَّلَهُ مُخَالِفُوهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَـ " مِنْ " دَاخِلَةٌ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَأَمَّا قَبْلُ وَبَعْدُ فَلَيْسَتَا ظَرْفَيْنِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا هُمَا صِفَتَانِ. الثَّانِي الْغَايَةُ، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ انْتِهَاءً وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى فِعْلٍ هُوَ مَحَلٌّ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَانْتِهَائِهِ مَعًا نَحْوُ: أَخَذْتُ مِنَ التَّابُوتِ، فَالتَّابُوتُ مَحَلُّ ابْتِدَاءِ الْأَخْذِ وَانْتِهَائِهِ، وَكَذَلِكَ أَخَذْتُهُ مِنْ زَيْدٍ، فَزَيْدٌ مَحَلٌّ لِابْتِدَاءِ الْأَخْذِ وَانْتِهَائِهِ كَذَلِكَ. قَالَهُ الصَّفَّارُ. وَغَايَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ، قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تَكُونُ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ الْهِلَالَ مِنْ دَارِي مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ، فَابْتِدَاءُ الرُّؤْيَةِ وَقَعَ مِنَ الدَّارِ، وَانْتِهَاؤُهَا مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ، وَكَذَلِكَ شَمَمْتُ الرَّيْحَانَ مِنْ دَارِي مِنَ الطَّرِيقِ، فَابْتِدَاءُ الشَّمِّ مِنَ الدَّارِ وَانْتِهَاؤُهُ إِلَى الطَّرِيقِ. قَالَ: وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، بَلْ هُمَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَالْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي حَقِّ الْفَاعِلِ، وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي حَقِّ الْمَفْعُولِ، وَنَظِيرُهُ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بِالشَّامِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ كَتْبِهِ إِلَى عُمَرَ بِالشَّامِ، بَلِ الَّذِي كَانَ فِي الشَّامِ عُمَرُ، فَقَوْلُهُ بِالشَّامِ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ. قَالَ: وَزَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ لَزِمَهَا إِلَى الِانْتِهَاءِ فَأَجَازَ: سِرْتُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى يَوْمِ الْأَحَدِ، لِأَنَّكَ لَوْ لَمْ تَذْكُرْ لَمْ يُدْرَ إِلَى أَيْنَ انْتَهَى السَّيْرُ. قَالَ الصَّفَّارُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَإِذَا أَرَادَتِ الْعَرَبُ هَذَا أَتَتْ فِيهِ بِمُذْ وَمُنْذُ وَيَكُونُ الِانْتِهَاءُ إِلَى زَمَنِ الْإِخْبَارِ. الثَّالِثُ: التَّبْعِيضُ، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ وَلَهَا عَلَامَتَانِ أَنْ يَقَعَ الْبَعْضُ مَوْقِعَهَا وَأَنْ يَعُمَّ مَا قَبْلَهَا مَا بَعْدَهَا إِذَا حُذِفَتْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 92) وَلِهَذَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ. وَقَوْلِهِ: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} (الْبَقَرَةِ: 253). وَقَوْلِهِ: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} (إِبْرَاهِيمَ: 37) فَإِنَّهُ كَانَ نَزَلَ بِبَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ. الرَّابِعُ: بَيَانُ الْجِنْسِ مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ مُطْلَقًا، حَكَاهُ التَّرَّاسُ، وَلَهَا عَلَامَتَانِ أَنْ يَصِحَّ وَضْعُ الَّذِي مَوْضِعَهَا، وَأَنْ يَصِحَّ وُقُوعُهَا صِفَةً لِمَا قَبْلَهَا. وَقِيلَ: هِيَ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا تَحْتَهُ أَجْنَاسٌ، وَالْمُرَادُ أَحَدُهَا، فَإِذَا أَرَدْتَ وَاحِدًا مِنْهَا بَيَّنْتَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (الْحَجِّ: 30) فَالرِّجْسُ يَشْمَلُ الْأَوْثَانَ وَغَيْرَهَا، فَلَمَّا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَمْ يُعْلَمِ الْمُرَادُ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِذِكْرِ الْأَوْثَانِ عُلِمَ أَنَّهَا الْمُرَادُ مِنَ الْجِنْسِ، وَقُرِنَتْ بِمِنْ لِلْبَيَانِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهَا لِلْجِنْسِ، وَأَمَّا اجْتِنَابُ غَيْرِهَا فَمُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، أَيِ اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الْوَثَنِيَّ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى الصِّفَةِ. وَهِيَ بِعَكْسِ الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، فَإِنَّ تِلْكَ يَكُونُ مَا قَبْلَهَا بَعْضًا مِمَّا بَعْدَهَا. فَإِذَا قُلْتَ: أَخَذْتُ دِرْهَمًا مِنَ الدَّرَاهِمِ كَانَ الدِّرْهَمُ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ. وَهَذِهِ مَا بَعْدَهَا بَعْضٌ مِمَّا قَبْلَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْثَانَ بَعْضُ الرِّجْسِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (النُّورِ: 55) أَيِ الَّذِينَ هُمْ أَنْتُمْ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلِهَذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهَا التَّبْعِيضُ. وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} (النُّورِ: 43) فَـ " مِنَ " الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيِ ابْتِدَاءِ الْإِنْزَالِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ بَعْضِ جِبَالٍ مِنْهَا، وَالثَّالِثَةُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الْجِبَالَ تَكُونُ بَرَدًا وَغَيْرَ بَرَدٍ. وَنَظِيرُهَا: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 105) فَالْأُولَى لِلْبَيَانِ، لِأَنَّ الْكَافِرِينَ نَوْعَانِ: كِتَابِيُّونَ وَمُشْرِكُونَ، وَالثَّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِدُخُولِهَا عَلَى نَكِرَةٍ مَنْفِيَّةٍ، وَالثَّالِثَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَوْلُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} (الْكَهْفِ: 31) فَالْأَوْلَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالثَّانِيَةُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَوْ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} (الْإِنْسَانِ: 21) وَالثَّالِثَةُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَوِ التَّبْعِيضِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَوْمُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمَغَارِبَةِ بَيَانَ الْجِنْسِ، وَقَالُوا: هِيَ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لِأَنَّ الرِّجْسَ جَامِعٌ لِلْأَوْثَانِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا قِيلَ مِنَ الْأَوْثَانِ، فَمَعْنَاهُ الِابْتِدَاءُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، لِأَنَّ الرِّجْسَ لَيْسَ هُوَ ذَاتُهَا، فَمِنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَهِيَ فِي: أَخَذْتُهُ مِنَ التَّابُوتِ. وَقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الرِّجْسَ مِنْهَا هُوَ عِبَادَتُهَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} (الزُّمَرِ: 17). وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْكُمْ فَهِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَيُقَدَّرُ الْخِطَابُ عَامًّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (مِنْ جِبَالٍ) فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ مُشْتَمِلَةً عَلَى جِبَالِ الْبَرَدِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَيُنَزِّلُ مِنْ بَرَدٍ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا أُعِيدَ فِيهِ الْعَامِلُ مَعَ الْبَدَلِ، كَقَوْلِهِ: {لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنُ مِنْهُمْ} (الْأَعْرَافِ: 75). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ} (الْكَهْفِ: 31) فَفِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَهِيَ لِلتَّبْعِيضِ. وَكَثِيرًا مَا تَقَعُ بَعْدَ مَا وَمَهْمَا لِإِفْرَاطِ إِبْهَامِهِمَا، نَحْوُ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ} (فَاطِرٍ: 2) {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (الْبَقَرَةِ: 106) {وَمَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} (الْأَعْرَافِ: 132) وَهِيَ وَمَخْفُوضُهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ تَقَعُ بَعْدَ غَيْرِهِمَا: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} (الْكَهْفِ: 31) الشَّاهِدُ فِي غَيْرِ الْأُولَى، فَإِنَّ تِلْكَ لِلِابْتِدَاءِ. وَقِيلَ زَائِدَةٌ. الْخَامِسُ: التَّعْلِيلُ وَيُقَدَّرُ بِلَامٍ، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} (نُوحٍ: 25) وَقَوْلِهِ: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} (قُرَيْشٍ: 4) أَيْ مِنْ أَجْلِ الْجُوعِ. وَرَدَّهُ الْأَبْذِيُّ بِأَنَّ الَّذِي فُهِمَ مِنْهُ الْعِلَّةُ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْمُرَادِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلِابْتِدَاءِ، أَيِ ابْتِدَاءِ الْإِطْعَامِ مِنْ أَجْلِ الْجُوعِ. السَّادِسُ: الْبَدَلُ مِنْ حَيْثُ الْعِوَضِ عَنْهُ، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ كَالسَّبَبِ فِي حُصُولِ الْعِوَضِ، فَكَأَنَّهُ مِنْهُ أَتَى، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (الزُّخْرُفِ: 60)، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَكُونُ مِنَ الْإِنْسِ. وَقَوْلِهِ: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} (التَّوْبَةِ: 38) أَيْ بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ، وَمَحَلُّهَا مَعَ مَجْرُورِهَا النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَقَوْلِهِ: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (آلِ عِمْرَانَ: 116) أَيْ بَدَلَ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 42) أَيْ بَدَلَ الرَّحْمَنِ. السَّابِعُ: بِمَعْنَى " عَلَى "، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 77) أَيْ عَلَى الْقَوْمِ، وَقِيلَ: عَلَى التَّضْمِينِ أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْهُمْ بِالنَّصْرِ. الثَّامِنُ: بِمَعْنَى عَنْ، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزُّمَرِ: 22) {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 97) وَقِيلَ: هِيَ لِلِابْتِدَاءِ فِيهِمَا. وَقَوْلِهِ: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} (قُرَيْشٍ: 4) فَقَدْ أَشَارَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّ مِنْ هُنَا تُؤَدِّي مَعْنَى عَنْ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ الْجُوعِ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الَّذِي فُهِمَ مِنْهُ الْعِلَّةُ إِنَّمَا هُوَ " أَجْلُ " لَا " مِنْ ". وَاخْتَارَ الصَّفَّارُ أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَكَأَنَّهُ قَالَ: ابْتِدَاءٌ فِعْلِيٌّ لِسَبَبِ كَذَا أَيِ ابْتِدَاءُ الطُّعْمِ مِنْ أَجْلِ الْجُوعِ، فَكَانَ الْجُوعُ ابْتِدَاءَ وُقُوعِ سَبَبِ الْجُوعِ التَّاسِعُ: بِمَعْنَى الْبَاءِ، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} (الشُّورَى: 45) حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ يُونُسَ. وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ: مِنْ طَرْفٍ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا نَظَرُهُ بِبَعْضِهَا. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ أَبَانَ {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرَّعْدِ: 11) أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَقَوْلَهُ: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ} (الْقَدْرِ: 4- 5). الْعَاشِرُ بِمَعْنَى " فِي "، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (الْجُمُعَةِ: 9). {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} (فَاطِرٍ: 40). وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ. الْحَادِي عَشَرَ: بِمَعْنَى " عِنْدَ "، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 10) قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقِيلَ إِنَّهَا لِلْبَدَلِ. الثَّانِي عَشَرَ: بِمَعْنَى الْفَصْلِ مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، نَحْوُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (الْبَقَرَةِ: 220) {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آلِ عِمْرَانَ: 179). الثَّالِثَ عَشَرَ: الزَّائِدَةُ، مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ وَلَهَا شَرْطَانِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى نَكِرَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ نَفْيًا، نَحْوَ مَا كَانَ مِنْ رَجُلٍ. أَوْ نَهْيًا نَحْوَ لَا تَضْرِبْ مِنْ رَجُلٍ، أَوِ اسْتِفْهَامًا، نَحْوُ: هَلْ جَاءَكَ مِنْ رَجُلٍ؟ وَأَجْرَى بَعْضُهُمُ الشَّرْطَ مَجْرَى النَّفْيِ، نَحْوُ: إِنْ قَامَ رَجُلٌ قَامَ عَمْرٌو. وَقَالَ الصَّفَّارُ: الصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَلَهَا فِي النَّفْيِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ، وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى مَا لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، نَحْوُ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ، فَإِنَّهُ قَبْلَ دُخُولِهَا يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْجِنْسِ وَنَفْيَ الْوَحْدَةِ، فَإِذَا دَخَلَتْ مِنْ تُعِينُ نَفْيَ الْجِنْسِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الْمَائِدَةِ: 73). {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} (الْأَنْعَامِ: 59). {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (الْمُلْكِ: 3). وَثَانِيهِمَا: لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الصِّيغَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْعُمُومِ، نَحْوَ مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، أَوْ مِنْ دَيَّارٍ، لِأَنَّكَ لَوْ أَسْقَطْتَ مِنْ لَبَقِيَ الْعُمُومُ عَلَى حَالِهِ، لَأَنَّ أَحَدًا لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلْعُمُومِ فِي النَّفْيِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَغَايُرِ الْمَعْنَيَيْنِ خِلَافُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ مِنْ تَسَاوِيهِمَا. قَالَ الصَّفَّارُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي وَأَنَّهَا مُؤَكَّدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى: " جَاءَنِي رَجُلٌ " إِلَّا وَهُوَ يُرَادُ بِهِ " مَا جَاءَنِي أَحَدٌ " لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا تَأْكِيدُ الِاسْتِغْرَاقِ مَعَ أَحَدٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا الِاسْتِغْرَاقُ، فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَيْهِ، فَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى. قَالَ: وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُؤَكِّدَةَ تَرْجِعُ لِمَعْنَى التَّبْعِيضِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَتَانِي بَعْضُ هَذَا الْجِنْسِ وَلَا كُلُّهُ، وَكَذَا مَا أَتَانِي مِنْ أَحَدٍ، أَيْ بَعْضٍ مِنَ الْأَحَدَيْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَصَّ الْأُسْتَاذُ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهَا نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، قَالَ: فَإِذَا قُلْتَ: مَا أَتَانِي رَجُلٌ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ. أَحَدُهَا: [أَنْ] تُرِيدَ مَا أَتَاكَ مِنْ رَجُلٍ فِي قُوَّتِهِ وَنَفَاذِهِ، بَلْ أَتَاكَ الضُّعَفَاءُ. الثَّانِي: أَنْ تُرِيدَ أَنَّهُ مَا أَتَاكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بَلْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تُرِيدَ مَا أَتَاكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَلَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا أَتَانِي مِنْ رَجُلٍ، كَانَ نَفْيًا لِذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ وَتَسْتَغْرِقُ. وَيَلْتَحِقُ بِالنَّفْيِ الِاسْتِفْهَامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (الْمُلْكِ: 3). وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 271)، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (نُوحٍ: 4) وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ، بِدَلِيلِ: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (الزُّمَرِ: 53) فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الزِّيَادَةِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ. وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ لَوْ كَانَتَا فِي حَقِّ قَبِيلٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا " مِنْ " لِقَوْمِ نُوحٍ، وَالْأُخْرَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا غُفِرَ لِلْبَعْضِ كَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ، فَلَا يَحْصُلُ كَمَالُ التَّرْغِيبِ فِي الْإِيمَانِ، إِلَّا بِغُفْرَانِ الْجَمِيعِ. وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَحْسُنُ التَّبْعِيضُ فِيهَا مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فَيَصِحُّ قَوْلُ الْأَخْفَشِ، فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِغُفْرَانِ بَعْضِ الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ إِغْرَاقَ قَوْمِ نُوحٍ عَذَابٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مُضَافًا إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَلَوْ آمَنُوا لَغُفِرَ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْإِغْرَاقَ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا غُفْرَانُ الذَّنْبِ بِالْإِيمَانِ فِي الْآخِرَةِ فَمَعْلُومٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا آمَنَ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ ذُنُوبٌ وَهِيَ مَظَالِمُ الْعِبَادِ، فَثَبَتَ التَّبْعِيضُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: " ذُنُوبِكُمْ " يَشْمَلُ الْمَاضِيَةَ وَالْمُسْتَقْبَلَةَ، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَقِيلَ: " مِنْ " لِتُفِيدَ أَنَّ الْمَغْفُورَ الْمَاضِي، وَعَدَمَ إِطْمَاعِهِمْ فِي غُفْرَانِ الْمُسْتَقْبَلِ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَجْتَنِبُوا الْمَنْهِيَّاتِ. وَقِيلَ: [إِنَّهَا] لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَهُوَ حَسَنٌ، لِقَوْلِهِ: {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (الْأَنْفَالِ: 38) وَسِيبَوَيْهِ يُقَدِّرُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ مَفْعُولًا مَحْذُوفًا، أَيْ يَغْفِرُ لَكُمْ بَعْضًا مِنْ ذُنُوبِكُمْ مُحَافَظَةً عَلَى مَعْنَى التَّبْعِيضِ. وَقِيلَ: بَلِ الْحَذْفُ لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَغْفِرُ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ مَا لَوْ كَشَفَ لَكُمْ عَنْ كُنْهِهِ لَاسْتَعْظَمْتُمْ ذَلِكَ، وَالشَّيْءُ إِذَا أَرَادُوا تَفْخِيمَهُ أَبْهَمُوهُ كَقَوْلِهِ: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (طه: 78) أَيْ أَمْرٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ الصَّفَّارُ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى بَابِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ " غَفَرَ " تَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِاللَّامِ، فَالْأَخْفَشُ يَجْعَلُ الْمَفْعُولَ الْمُصَرَّحَ الذُّنُوبَ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، فَتَكُونُ " مِنْ " زَائِدَةً، وَنَحْنُ نَجْعَلُ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا، وَقَامَتْ " مِنْ ذُنُوبِكُمْ " مَقَامَهُ، أَيْ جُمْلَةً مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَغْفُورَ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ مَا اكْتَسَبُوهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ لَا فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، وَالَّذِي اكْتَسَبُوهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ لَا جَمِيعُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ: {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 271) فَلِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَةِ لَا يَمْحُو كُلَّ السَّيِّئَاتِ. وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْأَخْفَشُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النُّورِ: 30) أَيْ أَبْصَارَهُمْ، وَقَوْلِهِ: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (مُحَمَّدٍ: 15) أَيْ كُلُّ الثَّمَرَاتِ. وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مَنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} (الْأَنْعَامِ: 34). وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا، بَلْ هِيَ فِي الْأَوَّلِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ النَّظَرَ قَدْ يَكُونُ عَنْ تَعَمُّدٍ وَعَنْ غَيْرِ تَعَمُّدِ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى نَظَرِ الْعَمْدِ فَقَطْ، وَلِهَذَا عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النُّورِ: 30) مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ " مِنْ "، لِأَنَّ حِفْظَ الْفُرُوجِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فِي النَّظَرِ لِجَوَازِ وُقُوعِهِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ يُبَاحُ لِلْخِطْبَةِ وَلِلتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهَا كُلُّ نَوْعٍ مِنْ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَزِيَادَةٌ، وَلَمْ يَجْعَلْ جَمِيعَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الثِّمَارِ عِنْدَهُمْ، بَلْ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَا يَكْفِيهِ وَزِيَادَةٌ عَلَى كِفَايَتِهِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْجِنْسِ عِنْدَهُمْ حَتَّى لَمْ تَبْقَ مَعَهُ بَقِيَّةٌ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ وَصْفُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّنَاهِي. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَلِلتَّبْعِيضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النِّسَاءِ: 164). (لَطِيفَةٌ): إِنَّهَا حَيْثُ وَقَعَتْ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تُذْكَرْ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الصَّفِّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الْآيَةَ: 10) إِلَى قَوْلِهِ: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (الْآيَةَ: 12). وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} (الْآيَةَ: 70) إِلَى قَوْلِهِ: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (الْآيَةَ: 71). وَقَالَ فِي خِطَابِ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ نُوحٍ: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (الْآيَةَ: 4). وَفِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (الْآيَةَ: 31) وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ، لِئَلَّا يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْوَعْدِ، وَلِهَذَا إِنَّهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ وَالْأَحْقَافِ وَعَدَهُمْ مَغْفِرَةَ بَعْضِ الذُّنُوبِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، لَا مُطْلَقًا، وَهُوَ غُفْرَانُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، لَا مَظَالِمِ الْعِبَادِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: الْمُلَابَسَةُ مِنْ مَعَانِي مِنْ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} (التَّوْبَةِ: 67) أَيْ يُلَابِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُوَالِيهِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى النَّسْلِ وَالْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ نَسْلِ الْمُنَافِقِ مُؤْمِنٌ وَعَكْسُهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التَّوْبَةِ: 71). وَكَذَا قَوْلُهُ: {ذَرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 34). كَمَا يَتَبَرَّأُ الْكُفَّارُ كَقَوْلِهِ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} (الْبَقَرَةِ: 166). فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (النِّسَاءِ: 25) أَيْ بَعْضُكُمْ يُلَابِسُ بَعْضًا وَيُوَالِيهِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، مِنْ حَيْثُ يَشْمَلُكُمُ الْإِسْلَامُ.
لِلْمُصَاحَبَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مُصَاحَبَةٌ وَاشْتِرَاكٌ إِلَّا فِي حُكْمٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَلِذَلِكَ لَا تَكُونُ الْوَاوُ الَّتِي بِمَعْنَى مَعَ إِلَّا بَعْدَ فِعْلٍ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، لِتَصِحَّ الْمَعِيَّةُ. وَكَمَالُ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ الِاجْتِمَاعُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي بِهِ الِاشْتِرَاكُ، فِي زَمَانِ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكِ، وَتُسْتَعْمَلُ أَيْضًا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الَّذِي بِهِ الِاشْتِرَاكُ دُونَ زَمَانِهِ. فَالْأَوَّلُ يَكْثُرُ فِي أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَالْعِلَاجِ، نَحْوُ: دَخَلْتُ مَعَ زَيْدٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَ عَمْرٍو، وَقُمْنَا مَعًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} (يُوسُفَ: 36) {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} (يُوسُفَ: 12) {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} (يُوسُفَ: 63) {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} (يُوسُفَ: 66). وَالثَّانِي يَكْثُرُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَعْنَوِيَّةِ، نَحْوُ: آمَنْتُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَتُبْتُ مَعَ التَّائِبِينَ، وَفَهِمْتُ الْمَسْأَلَةَ مَعَ مَنْ فَهِمَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 43). وَقَوْلِهِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التَّوْبَةِ: 119) {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (التَّحْرِيمِ: 10). {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه: 46). {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 62). {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التَّوْبَةِ: 40) أَيْ بِالْعِنَايَةِ وَالْحِفْظِ. {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (التَّحْرِيمِ: 8) يَعْنِي الَّذِينَ شَارَكُوهُ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ وَالِاشْتِرَاكُ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَذَاهِبِ. وَقَدْ ذَكَرُوا الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} (الْأَعْرَافِ: 157) قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعِيَّةِ فِي الِاشْتِرَاكِ، فَتَمَامُهُ الِاجْتِمَاعُ فِي الزَّمَانِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ أُنْزِلَ مَعَ نُبُوَّتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَعَ اتِّبَاعِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِيمَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ دُونَ الزَّمَانِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَاتَّبَعُوا مَعَهُ النُّورَ. وَقَدْ تَكُونُ الْمُصَاحَبَةُ فِي الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَفْعُولِ وَبَيْنَ الْمُضَافِ، كَقَوْلِهِ: شَمَمْتُ طِيبًا مَعَ زَيْدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (الْكَهْفِ: 76) نَقَلَ ذَلِكَ أَبُو الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيُّ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ، عَنْ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ فِي الشِّعْرِ اسْتِعْمَالُ " مَعَ " فِي مَعْنًى يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ لِيُلْحَقَ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَقُومُ مَعَ الرُّمْحِ الرُّدَيْنِيِّ قَامَةً *** وَيَقْصُرُ عَنْهُ طُولُ كُلِّ نِجَادِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: " مَعَ " تَقْتَضِي الِاجْتِمَاعَ، إِمَّا فِي الْمَكَانِ نَحْوُ: هُمَا مَعًا فِي الدَّارِ، أَوْ فِي الزَّمَانِ نَحْوُ: وُلِدَا مَعًا، أَوْ فِي الْمَعْنَى كَالْمُتَضَايِفَيْنِ، نَحْوُ: الْأَخُ وَالْأَبُ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا صَارَ أَخًا لِلْآخَرِ فِي حَالِ مَا صَارَ الْآخَرُ أَخَاهُ، وَإِمَّا فِي الشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ، نَحْوُ: هُمَا مَعًا فِي الْعُلُوِّ، وَتَقْتَضِي مَعْنَى النُّصْرَةِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَفْظُ " مَعَ " هُوَ الْمَنْصُورُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التَّوْبَةِ: 40). {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} (النَّحْلِ: 128). {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} (الْحَدِيدِ: 4) {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (الْبَقَرَةِ: 194) {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 62) انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِنَّ مَعًا إِذَا أُفْرِدَتْ تُسَاوِي جَمِيعًا مَعْنًى، وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا. قَالَ ثَعْلَبٌ: إِذَا قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو جَمِيعًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ فِي وَقْتَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو مَعًا، فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَالتَّحْقِيقُ مَا سَبَقَ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالْحُضُورِ، كَقَوْلِهِ: (إِنَّنِي مَعَكُمَا) أَيْ نَاصِرُكُمَا، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} (النَّحْلِ: 128) أَيْ مُعِينُهُمْ. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} (الْحَدِيدِ: 4)، أَيْ عَالِمٌ بِكُمْ وَمُشَاهِدُكُمْ، فَكَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَعَهُمْ، وَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، إِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو، أَيْ زَمَنَ مَجِيءِ عَمْرٍو، ثُمَّ حُذِفَ الزَّمَنُ وَالْمَجِيءُ وَقَامَتْ (مَعَ) مَقَامَهُمَا.
مَعَانِيهِ فِي الْقُرْآنِ: لِلتَّأْكِيدِ، وَهِيَ إِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ تَأْكِيدِ الْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ شَدِيدَةً فَبِمَنْزِلَةِ تَأْكِيدِهِ ثَلَاثًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} (يُوسُفَ: 32) مِنْ حَيْثُ أَكَّدَتِ السِّجْنَ بِالشِّدَّةِ دُونَ مَا بَعْدَهُ إِعْظَامًا. وَلَمْ يَقَعِ التَّأْكِيدُ بِالْخَفِيفَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: هَذَا، وَقَوْلِهِ: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (الْعَلَقِ: 15). وَفِي الْقَوَاعِدِ أَنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ الْجَمَاعَةِ الذُّكُورِ كَانَ مَا قَبْلَهَا مَضْمُومًا، نَحْوُ: يَا رِجَالُ اضْرِبُنَّ زَيْدًا، وَمِنْهُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 81)، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الْأَعْرَافِ: 134) فَإِنَّمَا جَاءَ قَبْلَهَا مَفْتُوحًا، لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ الْجَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدِ، وَلَا تَلْحَقُهُ وَاوُ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَالُوا: نَحْنُ نَقُومُ، لِيَكُونَ فِعْلُهُمْ كَفِعْلِ الْوَاحِدِ، وَالرَّجُلُ الرَّئِيسُ إِذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ كَقَوْلِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلَتِ النُّونُ هَذَا الْفِعْلَ مَرَّةً أُخْرَى بُنِيَ آخِرُهُ عَلَى الْفَتْحِ لَمَّا كَانَ لَا يَلْحَقُهُ وَاوُ الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يَضُمُّونَ مَا قَبْلَ النُّونِ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَكُونُ لِلْجَمَاعَةِ، وَيَلْحَقُهَا وَاوُ الْجَمْعِ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ وَاوَ الْجَمْعِ يَكُونُ مَا قَبْلَهَا مَضْمُومًا، نَحْوَ قَوْلِكَ: (يَضْرِبُونَ) فَإِذَا دَخَلَتِ النُّونُ حُذِفَتْ نُونُ الْإِعْرَابِ لِدُخُولِهَا، وَحُذِفَ الْوَاوُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ النُّونِ، وَبَقِيَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ مَضْمُومًا لِيَدُلَّ عَلَيْهِ. وَمِثْلُهُ: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الْأَعْرَافِ: 149). فَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ مَفْتُوحًا لَمْ يُحْذَفْهَا، وَلَكِنَّهَا تُحَرِّكُهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، نَحْوَ اخْشَوُنَّ زَيْدًا.
مَعَانِيهِ فِي الْقُرْآنِ تَكُونُ ضَمِيرًا لِلْغَائِبِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ، حَرْفُ الْهَاءِ يَأْتِي نَحْوُ: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (الْكَهْفِ: 37) وَتَكُونُ لِبَيَانِ السَّكْتِ. وَتَلْحَقُ وَقْفًا لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ، وَإِنَّمَا تُلْحَقُ بِحَرَكَةِ بِنَاءٍ، لَا تُشْبِهُ حَرَكَةَ الْإِعْرَابِ، نَحْوُ: مَا هِيَهْ (الْقَارِعَةِ: 10) وَكَالْهَاءِ فِي كِتَابِيَهْ (الْحَاقَّةِ: 25) وَ " حِسَابِيَهْ " (الْحَاقَّةِ: 20) وَ " سُلْطَانِيَهْ " (الْحَاقَّةِ: 29) وَ " مَالِيَهْ " (الْحَاقَّةِ: 28). وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تُحْذَفَ وَصْلًا وَتُثْبَتَ وَقْفًا، وَإِنَّمَا أُجْرِيَ الْوَصْلُ مَجْرَى الْوَقْفِ، أَوْ وُصِلَ بِنِيَّةِ الْوَقْفِ فِي " كِتَابِيَهْ وَحِسَابِيَهْ " اتِّفَاقًا، فَأُثْبِتَتِ الْهَاءُ كَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ إِلَّا حَمْزَةَ، فَإِنَّهُ حَذَفَ الْهَاءَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمِ الثَّلَاثِ، وَأَثْبَتَهَا وَقْفًا. أَعْنِي فِي مَالِيَهْ، وَسُلْطَانِيَهْ، وَمَاهِيَهْ فِي الْقَارِعَةِ، لِأَنَّهَا فِي الْوَقْفِ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِتَحْصِينِ حَرَكَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَفِي الْوَصْلِ يُسْتَغْنَى عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِيَهْ وَحِسَابِيَهْ؟ قِيلَ: إِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ.
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ اسْمًا سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ. وَثَانِيهِمَا لِلتَّنْبِيهِ، وَلَهَا مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَلْحَقَ الْأَسْمَاءَ الْمُبْهَمَةَ الْمُفْرَدَةَ، نَحْوُ: هَذَا، وَتَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ حَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَةِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ حَرْفُ الْجَرِّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} (الْعَنْكَبُوتِ: 47). وَيُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (الصَّافَّاتِ: 61). الثَّانِي: أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 119). {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} (النِّسَاءِ: 109). وَيَدُلُّ عَلَى دُخُولِ حَرْفِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، أَنَّهُ لَا يَخْلُوا إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ بِهِ الدُّخُولُ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ، أَوِ الْجُمْلَةِ؛ لَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْمُبْهَمَ فِي الْآيَتَيْنِ دَخَلَ عَلَيْهِمَا حَرْفُ الْإِشَارَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ دُخُولَهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْجُمْلَةِ. ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ.
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: لِلِاسْتِفْهَامِ قِيلَ: وَلَا يَكُونُ الْمُسْتَفْهِمُ مَعَهَا إِلَّا فِيمَا لَا ظَنَّ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ الْهَمْزَةِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِثْبَاتٌ. فَإِذَا قُلْتَ: أَعِنْدَكَ زَيْدٌ؟ فَقَدْ هَجَسَ فِي نَفْسِكَ أَنَّهُ عِنْدَهُ فَأَرَدْتَ أَنْ تَسْتَثْبِتَهُ، بِخِلَافِ " هَلْ ". حَكَاهُ ابْنُ الدَّهَّانِ. وَقَدْ سَبَقَ فُرُوقٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى " قَدْ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} (طه: 9)، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (الْغَاشِيَةِ: 1) {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (الْإِنْسَانِ: 1). وَإِنَّمَا حَمَلُوهَا عَلَى الْحَرْفِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ عَالِمٍ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَأَخْرَجُوهَا عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ إِلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ، حَمَلُوهَا عَلَى الْحَرْفِ الْمُوجِبِ، وَهُوَ " قَدْ " وَكَانَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِصِيغَةِ اخْتِصَاصِ السِّينِ وَسَوْفَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا وَرَدَ بَعْدَهَا فِعْلٌ، فَإِنْ كَانَ اسْمًا فَعَلَى مَعْنَى " قَدْ "، إِلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِيجَابُ لِمَا بَعْدَهَا كَمَا يَدَّعِي الْفَرَّاءُ بِاللَّامِ فِي الْإِيجَابِ فِي قَوْلِكَ: إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ، إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى " قَدْ "، وَإِنَّ " قَدْ " لَا تَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ الْكَلَامَ إِيجَابٌ، وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ كَوْنِ " هَلْ " بِمَعْنَى " قَدْ " وَلَمْ يُخْرِجُوهَا مِنْ بَابِهَا، وَتَأَوَّلُوا " هَلْ " فِي الْآيَةِ إِلَى شَيْءٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمَخْلُوقِ فِي السُّؤَالِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ " هَلْ " تَأْتِي لِلتَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الْفَجْرِ: 5) أَيْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (الْإِنْسَانِ: 1) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ فَإِنَّهُ تَوْبِيخٌ لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ. وَتَأْتِي بِمَعْنَى " مَا " كَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (الْبَقَرَةِ: 210). وَبِمَعْنَى " أَلَا " كَقَوْلِهِ: {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (الْكَهْفِ: 103). وَبِمَعْنَى الْأَمْرِ، نَحْوُ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (الْمَائِدَةِ: 91). وَبِمَعْنَى السُّؤَالِ: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (ق: 30). وَبِمَعْنَى التَّمَنِّي {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الْفَجْرِ: 5). وَبِمَعْنَى أَدْعُوكَ، نَحْوُ: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} (النَّازِعَاتِ: 18) فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: لِتَبْعِيدِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 36) قَالَ الزَّجَّاجُ: الْبُعْدُ لِمَا تُوعَدُونَ. قِيلَ: وَهَذَا غَلَطٌ مِنَ الزَّجَّاجِ أَوْقَعَهُ فِيهِ اللَّامُ، فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ: بَعُدَ الْأَمْرُ لِمَا تُوعَدُونَ، أَيْ لِأَجْلِهِ.
حَرْفٌ يَكُونُ عَامِلًا وَغَيْرَ عَامِلٍ. فَالْعَامِلُ الْوَاوُ الْعَامِلَةُ فِي الْقُرْآنِ قِسْمَانِ: جَارٌّ وَنَاصِبٌ. فَالْجَارُّ وَاوُ الْقَسَمِ، نَحْوُ: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الْأَنْعَامِ: 23). وَوَاوُ " رُبَّ " عَلَى قَوْلٍ كُوفِيٍّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَرَّ بِـ " رُبَّ " الْمَحْذُوفَةِ لَا بِالْوَاوِ. وَالنَّاصِبُ ثِنْتَانِ: وَاوُ " مَعَ " فَتَنْصِبُ الْمَفْعُولَ مَعَهُ عِنْدَ قَوْمٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَا قَبْلَ الْوَاوِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ شِبْهِهِ بِوَاسِطَةِ الْوَاوِ. وَالْوَاوُ الَّتِي يَنْتَصِبُ الْمُضَارِعُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي الْأَجْوِبَةِ الثَّمَانِيَةِ، وَأَنْ يُعْطَفَ بِهَا الْفِعْلُ عَلَى الْمَصْدَرِ، عَلَى قَوْلٍ كُوفِيٍّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَاوَ فِيهِ عَاطِفَةٌ، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ. وَلَهَا قِسْمٌ آخَرُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، تُسَمَّى وَاوَ الصَّرْفِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ يَقْتَضِي إِعْرَابًا فَصَرَفَتْهُ الْوَاوُ عَنْهُ إِلَى النَّصْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (الْبَقَرَةِ: 30) عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْعَامِلَةِ الْوَاوُ غَيْرُ الْعَامِلَةِ فِي الْقُرْآنِ فَلَهَا مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصْلُهَا- الْعَاطِفَةُ تُشْرِكُ فِي الْإِعْرَابِ وَالْحُكْمِ. وَهِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ قَبْلَهُ وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ، فَمِنَ الْأَوَّلِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزَّلْزَلَةِ: 1- 2) فَإِنَّ الْإِخْرَاجَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الزِّلْزَالِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ قَضِيَّةِ الْوُجُودِ لَا مِنَ الْوَاوِ. وَمِنَ الثَّانِي: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 43)، وَالرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ شَرْعَهُمْ كَانَ مُخَالِفًا لِشَرْعِنَا فِي ذَلِكَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} (الْجَاثِيَةِ: 24). أَيْ نَحْيَا وَنَمُوتُ. وَقَوْلِهِ: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} (الْحَاقَّةِ: 7)، وَالْأَيَّامُ هُنَا قَبْلَ اللَّيَالِي، إِذْ لَوْ كَانَتِ اللَّيَالِي قَبْلَ الْأَيَّامِ كَانَتِ الْأَيَّامُ مُسَاوِيَةً لِلَّيَالِي وَأَقَلَّ. قَالَ الصَّفَّارُ: وَلَوْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَقَالَ: " سَبْعَ لَيَالٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ " أَوْ " سَبْعَةَ أَيَّامٍ " وَأَمَّا ثَمَانِيَةٌ فَلَا يَصِحُّ عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ. (فَائِدَةٌ): وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (الْمُدَّثِّرِ: 11) {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} (الْمُزَّمِّلِ: 11) أَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ كَوْنَ الْوَاوِ عَاطِفَةً، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: اتْرُكْنِي وَاتْرُكْ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَكَذَلِكَ اتْرُكْنِي وَاتْرُكِ الْمُكَذِّبِينَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ وَاوُ " مَعَ " كَقَوْلِكَ: لَوْ تُرِكَتِ النَّاقَةُ وَفَصِيلَهَا لَرَضَعَهَا. وَمِنَ الثَّالِثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَمَعَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (الْقِيَامَةِ: 9) فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَالثَّانِي وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ، وَتُسَمَّى وَاوَ الْقَطْعِ وَالِابْتِدَاءِ، وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى، وَلَا مُشَارِكَةٍ فِي الْإِعْرَابِ، وَيَكُونُ بَعْدَهَا الْجُمْلَتَانِ. فَالِاسْمِيَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (الْأَنْعَامِ: 2). وَالْفِعْلِيَّةُ كَقَوْلِهِ: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} (الْحَجِّ: 5) {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} (مَرْيَمَ: 65- 66) وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ، لَكِنَّهَا تَعْطِفُ الْجُمَلَ الَّتِي لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْمُفْرَدَاتِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا. الثَّالِثُ: وَاوُ الْحَالِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَهِيَ عِنْدَهُمْ مُغْنِيَةٌ عَنْ ضَمِيرِ صَاحِبِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 154). وَقَوْلِهِ: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} (يُوسُفَ: 14). وَقَوْلِهِ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (الْأَنْفَالِ: 5). وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ، نَحْوُ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 22). {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} (الْبَقَرَةِ: 44). {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (الْبَقَرَةِ: 187). {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} (الْبَقَرَةِ: 243). {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 98). {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 102). {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} (الْبَقَرَةِ: 267). {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (الْأَنْعَامِ: 93). {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} (مَرْيَمَ: 20). الرَّابِعُ: لِلْإِبَاحَةِ نَحْوُ جَالِسِ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ، لِأَنَّكَ أُمِرْتَ بِمُجَالَسَتِهِمَا مَعًا. وَتَقُولُ أَيْضًا: هَذَا وَائْتِ زَيْدًا، فَهُمَا جَمِيعًا أَهْلُ الْمُجَالَسَةِ، وَإِنْ أَرَدْتَ.... لَمْ يَكُنْ مَاضِيًا. قَالَ: وَعَلَى هَذَا أَخَذَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التَّوْبَةِ: 60) الْآيَةَ. وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَوْلُ مَالِكٍ يُمْكِنُ أَنْ عُضِّدَ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ. الْخَامِسُ: وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ الْوَاوَ بَعْدَ السَّبْعَةِ إِيذَانًا بِتَمَامِ الْعَدَدِ، فَإِنَّ السَّبْعَةَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْعَقْدُ التَّامُّ كَالْعَشْرَةِ عِنْدَنَا فَيَأْتُونَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ الدَّالِّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَتَقُولُ: خَمْسَةٌ، سِتَّةٌ، سَبْعَةٌ، وَثَمَانِيَةٌ، فَيَزِيدُونَ الْوَاوَ إِذَا بَلَغُوا الثَّمَانِيَةَ. حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدُوسٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} (الْحَاقَّةِ: 7). وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ خَالَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (الْكَهْفِ: 22) بَعْدَمَا ذُكِرَ الْعَدَدُ مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزُّمَرِ: 73) بِالْوَاوِ لِأَنَّهَا ثَمَانِيَةٌ، وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ النَّارِ: {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزُّمَرِ: 71) بِغَيْرِ الْوَاوِ لِأَنَّهَا سَبْعَةٌ، وَفُعِلَ ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَهُمَا. وَقَوْلِهِ: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (التَّوْبَةِ: 112) بَعْدَ مَا ذَكَرَ قَبْلَهَا مِنَ الصِّفَاتِ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَقِيلَ: دَخَلَتْ فِيهِ إِعْلَامًا بِأَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي حَالِ أَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ، فَهُمَا حَقِيقَتَانِ مُتَلَازِمَتَانِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (التَّحْرِيمِ: 5) مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَوْ أُسْقِطَتْ مِنْهُ لَاسْتَحَالَ الْمَعْنَى لِتَنَاقُضِ الصِّفَتَيْنِ. وَلَمْ يُثْبِتِ الْمُحَقِّقُونَ وَاوَ الثَّمَانِيَةِ، وَأَوَّلُوا مَا سَبَقَ عَلَى الْعَطْفِ أَوْ وَاوِ الْحَالِ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي آيَةِ الْجَنَّةِ، لِبَيَانِ أَنَّهَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً قَبْلَ مَجِيئِهِمْ، وَحُذِفَتْ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُغْلَقَةً قَبْلَ مَجِيئِهِمْ. وَقِيلَ: زِيدَتْ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ عَلَامَةً لِزِيَادَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى غَضَبِهِ وَعُقُوبَتِهِ، وَفِيهَا زِيَادَةُ كَلَامٍ سَبَقَ فِي مَبَاحِثِ الْحَذْفِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تَأْتِي فِي الصِّفَاتِ إِلَّا إِذَا تَكَرَّرَتِ النُّعُوتُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ دُخُولُهَا مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (الْكَهْفِ: 22) وَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 48). وَتَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَالْعَالِمُ. السَّادِسُ: الزَّائِدَةُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} (الْحِجْرِ: 4) بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتِ الْوَاوُ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُ بِهَا أَمْرٌ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ. وَضَابِطُهُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جُمْلَةِ صِفَةٍ لِلنَّكِرَةِ، نَحْوُ: جَاءَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ ثَوْبٌ آخَرُ، وَكَذَا وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ (الْكَهْفِ: 22). وَقَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وَتَابَعَهُ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ: إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ فِي الْأَزْهَرِيَّةِ، فَقَالَ: وَتَأْتِي الْوَاوُ لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا إِلَّا وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ حَسَنٌ. وَفِي الْقُرْآنِ مِنْهُ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} (الْحِجْرِ: 4) وَقَالَ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 208). انْتَهَى. وَأَجَازَهُ أَبُو الْبَقَاءِ أَيْضًا فِي الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 216) فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةً لِشَيْءٍ، وَسَاغَ دُخُولُ الْوَاوِ لَمَّا كَانَتْ صُورَةُ الْجُمْلَةِ هُنَا كَصُورَتِهَا إِذَا كَانَتْ حَالًا. وَأَجَازَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 259) فَقَالَ: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِقَرْيَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (ص: 44) فَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا جَوَابَ الْأَمْرِ، بِتَقْدِيرِ: اضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ. وَيُتَحَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيًا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ} (يُوسُفَ: 21) قِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: وَلِنُعَلِّمَهُ فِعْلَنَا ذَلِكَ. كَذَلِكَ {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} (الصَّافَّاتِ: 7) أَيْ وَحِفْظًا فَعَلْنَا ذَلِكَ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزُّمَرِ: 73): إِنَّهَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ سُعِدُوا وَأُدْخِلُوا. وَقِيلَ: وَلِيُعْلَمَ فِعْلُنَا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} (الصَّافَّاتِ: 7) أَيْ وَحِفْظًا فِعْلُنَا ذَلِكَ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (الصَّافَّاتِ: 103- 104) أَيْ نَادَيْنَاهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: عُرِفَ صَبْرُهُ وَنَادَيْنَاهُ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الْأَنْعَامِ: 75). وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 48). أَيْ ضِيَاءً وَقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ} (آلِ عِمْرَانَ: 140) أَيْ لِيَعْلَمَ. وَقَوْلِهِ: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 91). وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ " إِذَا " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (الِانْشِقَاقِ: 1) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهَا إِذَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} (الِانْشِقَاقِ: 3) وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ وَقْتَ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ هُوَ وَقْتُ مَدِّ الْأَرْضِ وَانْشِقَاقِهَا، وَاسْتَبْعَدَهُ أَبُو الْبَقَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَبَرَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي إِعْلَامِنَا بِأَنَّ وَقْتَ الِانْشِقَاقِ فِي وَقْتِ الْمَدِّ، بَلِ الْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ: عِظَمُ الْأَمْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي: بِأَنَّ زِيَادَةَ الْوَاوِ يَغْلِبُ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَقَدْ تُحْذَفُ كَثِيرًا مِنَ الْجُمَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ} (التَّوْبَةِ: 92)، أَيْ وَقُلْتَ: وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَوَلَّوْا (التَّوْبَةِ: 92). وَقَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرَّعْدِ: 2) وَفِي الْقَوْلِ أَكْثَرُ: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الشُّعَرَاءِ: 23- 24) الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} (الْوَاقِعَةِ: 45- 46).
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: كَلِمَةُ تَنَدُّمٍ وَتَعَجُّبٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} (الْقَصَصِ: 82) {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (الْقَصَصِ: 82). وَقِيلَ: إِنَّهُ صَوْتٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنِ التَّنَدُّمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ مُسَمَّاهُ نَدِمْتُ أَوْ تَعَجَّبْتُ. وَقَالَ الصَّفَّارُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ أَلَمْ تَرَ، فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ أَرَادُوا تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. وَقِيلَ بِمَعْنَى وَيْلَكَ فَكَانَ يَنْبَغِي كَسْرُ إِنَّ. وَقِيلَ: " وَيْ " تَنْبِيهٌ، وَ " كَأَنَّ " لِلتَّشْبِيهِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ " كَأَنَّ " زَائِدَةً لَا تُفِيدُ تَشْبِيهًا..... بِوُضُوحِهَا وَالْحَالُ " وَيْ "، وَلَمْ يَثْبُتْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهَا لِلتَّشْبِيهِ، الْأَمْرُ يُشْبِهُ هَذَا بَلْ هُوَ كَذَا. قُلْتُ: عَنْ هَذَا اعْتَذَرَ سِيبَوَيْهِ فَقَالَ: الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ انْتَبَهُوا فَتَكَلَّمُوا عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِمْ، أَوْ نُبِّهُوا، فَقِيلَ لَهُمْ: أَمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَا عِنْدَكُمْ هَكَذَا. وَهَذَا بَدِيعٌ جِدًّا كَأَنَّهُمْ لَمْ يُحَقِّقُوا هَذَا الْأَمْرَ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِلَّا ظَنٌّ، فَقَالُوا نُشَبِّهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَا، وَنَبَّهُوا. ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَكَذَا عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ: كَأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ بَلِ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ. وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ حَرْفًا لِلْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمَ فِعْلٍ لَمْ يُضَفْ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ بِكَمَالِهِ اسْمٌ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ وَيْلَكَ فَحُذِفَتِ اللَّامُ وَفُتِحَتْ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ بِاسْمِ الْفِعْلِ قَبْلَهَا. وَأَمَّا الْوَقْفُ فَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ يَقِفَانِ عَلَى الْكَافِ عَلَى مُوَافَقَةِ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَالْكِسَائِيُّ يَقِفُ عَلَى الْيَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا قِرَاءَتَهُمْ مِنْ نَحْوِهِمْ، وَإِنَّمَا أَخَذُوهَا نَقْلًا، وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُمْ فِي النَّحْوِ وَلَمْ يَكْتُبُوهَا مُنْفَصِلَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ بِهَا الْكَلَامُ وُصِلَتْ.
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَيْلٌ تَقْبِيحٌ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 18). وَقَدْ تُوضَعُ مَوْضِعَ التَّحَسُّرِ وَالتَّفَجُّعِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: يَا وَيْلَتَنَا (الْكَهْفِ: 49) يَا وَيْلَتَى أَعْجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ.
اسْتِعْمَالَاتُهَا فِي الْقُرْآنِ: لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الدَّاعِي: يَا اللَّهُ {وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق: 50) اسْتِصْغَارًا لِنَفْسِهِ، وَاسْتِبْعَادًا لَهَا مِنْ مَظَانِّ الزُّلْفَى. وَقَدْ يُنَادَى بِهَا الْقَرِيبُ إِذَا كَانَ سَاهِيًا أَوْ غَافِلًا، تَنْزِيلًا لَهُمَا مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ. وَقَدْ يُنَادَى بِهَا الْقَرِيبُ الَّذِي لَيْسَ بِسَاهٍ وَلَا غَافِلٍ، إِذَا كَانَ الْخِطَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَى النِّدَاءِ فِي مَحَلِّ الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِ الْمُنَادَى. وَقَدْ تُحْذَفُ، نَحْوُ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (يُوسُفَ: 29) {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً} (يُونُسَ: 88) {قَالَ ابْنَ أُمَّ} (الْأَعْرَافِ: 150). وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} (الزُّمَرِ: 9) فِي قِرَاءَةِ تَخْفِيفِ مَنْ: إِنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلنِّدَاءِ، أَيْ يَا صَاحِبَ هَذِهِ الصِّفَاتِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: تَأْتِي لِلتَّأَسُّفِ وَالتَّلَهُّفِ، نَحْوُ: أَلَّا يَسْجُدُوا (النَّمْلِ: 2) وَقِيلَ لِلتَّنْبِيهِ. قَالَ: وَلِلتَّلَذُّذِ نَحْوُ: يَا بَرْدَهَا عَلَى الْفُؤَادِ لَوْ تَقِفْ *** وَهَذَا مَعَ التَّوْفِيقِ كَافٍ فَحُصِّلَا فِي آخِرِ النُّسْخَةِ الْمَنْقُولِ مِنْهَا مَا مِثَالُهُ: تَمَّتِ النُّسْخَةُ الْمُبَارَكَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَوْنِهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مُقَرِّبًا بِالْفَوْزِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ السَّعِيدِ، رَابِعَ عَشَرَ شَهْرِ شَعْبَانَ الْفَرْدِ، مِنْ شُهُورِ سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ. وَغَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلَا *** فَجَلَّ مَنْ لَا فِيهِ عَيْبٌ وَعَلَا
|